فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً}
ولما ذكر تعالى أمر أهل النار عقب بذكر أهل الجنة ليبين الفرق. و(المفاز): موضع الفوز لأنهم زحزحوا على النار وأدخلوا الجنة. و(الحدائق): البساتين التي عليها حلق وجدارات وحظائر. و{أتراباً} معناه: على سن واحدة، والتربان هما اللذان مسا التراب في وقت واحد، و(الدهاق): المترعة فيما قال الجمهور، وقال ابن جبير معناه: المتتابعة وهي من الدهق، وقال عكرمة: هي الصفية، وفي البخاري قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول للساقي: اسقنا كأساً دهاقاً، و(اللغو): سقط الكلام وهو ضروب، وقد تقدم القول في {كذاباً} إلا أن الكسائي من السبعة قرأ في هذا الموضع {كذَاباً} بالتخفيف وهو مصدر، ومنه قول الأعشى: مجزوء الكامل:
فصدقتها وكذبتها ** والمرء ينفعه كذابه

واختلف المتألون: في قوله: {حساباً}، فقال جمهور المفسرين واللغويين معناه: محسباً، كافياً في قولهم أحسبني هذا الأمر أي كفاني، ومنه حسبي الله، وقال مجاهد معناه: إن {حساباً} معناه بتقسط على الأعمال لأن نفس دخول الجنة برحمة الله وتفضله لا بعمل، والدرجات فيها والنعيم على قدر الأعمال، فإذا ضاعف الله لقوم حسناتهم بسبعمائة مثلاً ومنهم المكثر من الأعمال والمقل أخذ كل واحد سبعمائة بحسب عمله وكذلك في كل تضعيف، فالحساب ها هو موازنة أعمال القوم. وقرأ الجمهور: {حِسَاباً}: بكسر الحاء وتخفيف السين المفتوحة، وقرأ ابن قطب {حَسّاباً}: بفتح الحاء وشد الشين.
قال أبو الفتح جاء بالاسم من أفعل على فعال، كما قالوا أدرك فهو: دراك، فقرأ ابن عباس وسراج: {عطاء حسناً} بالنون من الحسن وحكى عنه المهدوي أنه قرأ: {حَسْباً} بفتح الحاء وسكون السين والباء، وقرأ شريح بن يزيد الحمصي: {حِسَّاباً} بكسر الحاء وشد السين المفتوحة، وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر وشيبة وأهل الحرمين: {ربُّ} بالرفع، وكذلك {الرحمنُ}، وقرأ ابن عامر وعاصم وابن مسعود وابن أبي إسحاق وابن محيصن والأعمش {رب} وكذلك {الرحمن} وقرأ حمزة والكسائي {ربِّ}: بالخفض و{الرحمنُ} بالرفع وهي قراءة الحسين وابن وثاب وابن محيصن بخلاف عنه ووجوه هذه القراءات بينة، وقوله تعالى: {لا يملكون} الضمير للكفار أي {لا يملكون} من أفضاله وأجماله أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها، وهذا في مواطن خاص.
{يوم يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقال صَوَابًا (38)}.
اختلف الناس في. المذكورة في هذا الموضع، فقال الشعبي والضحاك: هو جبريل عليه السلام ذكره خاصة من بين الملائكة تشريفاً، وقال ابن مسعود: هو ملك كريم أكبر الملائكة خلقة يسمى ب.، وقال ابن زيد: كان أبي يقول هو القرآن، وقد قال الله تعالى: {أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] أي من أمرنا.
قال القاضي أبو محمد: فالقيام فيه مستعار يراد ظهوره مثول آثاره، والأشياء الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه ومع هذا ففي القول قلق، وقال مجاهد:. خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الروح خلق غير الملائكة لهم حفظة للملائكة كما الملائكة حفظة لنا».
وقال ابن عباس والحسن وقتادة: {الروح} هنا اسم جنس: يراد به أرواح بني آدم والمعنى يوم تقوم الروح في أجسادها إثر البعث والنشأة الآخرة، ويكون الجميع من الإنس والملائكة {صفاً} ولا يتكلم أحد هيبة وفزعاً {إلا من أذن له الرحمن} من ملك أو نبي وكان أهلاً أن يقول: {صواباً} في ذلك الموطن، وقال ابن عباس: الضمير في {يتكلمون} عائد على الناس خاصة و(الصواب) المشار إليه لا إله إلا الله، قال عكرمة أي قالها في الدنيا. وقوله تعالى: {ذلك اليوم الحق} أي الحق كونه ووجوده، وفي قوله: {فمن شاء اتخذ إلى ربه} مكاناً وعد ووعيد وتحريض، و(المآب) المرجع وموضع الأوبة، والضمير الذي هو الكاف والميم في {أنذركم} هو لجميع العالم وإن كانت المخاطبة لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار، و(العذاب القريب): عذاب الآخرة، ووصفه بالقرب لتحقق وقوعه وأنه آت وكل آت قريب الجمع داخل في النذارة منه، ونظر المرء إلى {ما قدمت يداه} من عمل قيام الحجة عليه، وقال ابن عباس {المرء} هنا المؤمن، وقرأ ابن أبي إسحاق: (المُرء) بضم الميم وضعفها أبو حاتم، وقوله تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} قيل إن هذا تمنٍّ أن يكون شيئاً حقيراً لا يحاسب ولا يلتفت إليه، وهذا قد نجده في الخائفين من المؤمنين فقد قال عمر بن الخطاب: ليتني كنت بعرة، وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر: إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول لها من بعد ذلك: كوني تراباً، فيعود جميعها تراباً، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله.
قال أبو القاسم بن حبيب: رأيت في بعض التفاسير أن {الكافر} هنا إبليس إذا رأى ما حصل للمؤمنين من بني آدم من الثواب قال: {يا ليتني كنت تراباً}، أي كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أولاً.
نجز تفسير سورة (النبأ) والحمد لله حق حمده. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً}
شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِ المؤمنينَ إثرَ بيانِ سوءِ أحوالِ الكفرةِ أي إنَّ للذينَ يتقونَ الكفرَ وسائرَ قبائحِ أعمالِ الكفرةِ فوزاً وظفراً بمباغيهم أو موضعَ فوزٍ وقيلَ: نجاةً ممَّا فيه أولئكَ أو موضعَ نجاةٍ. وقوله تعالى: {حَدَائِقَ وأعنابا} أيْ بساتينَ فيها أنواعٌ الأشجارِ المثمرةِ وكروماً بدل من {مفازاً}.
{وَكَوَاعِبَ} أي نساءٌ فلكتْ ثُديهنَّ وهُنَّ النَّواهدُ {أَتْرَاباً} أي لداتٍ {وَكَأْساً دِهَاقاً} أي مُترعةً يقال أدهقَ الحوضَ أي ملأهُ {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي في الجنةِ وقيل: في الكأسِ {لَغْواً وَلاَ كِذباً} أي لا ينطقونَ بلغوٍ ولا يكذبُ بعضُهم بعضاً. وقرئ {كِذاباً} بالتخفيفِ أي لا يكذبُه أو لا يكاذبُه {جَزَاء مّن رَّبّكَ} مصدرٌ مؤكدٌ منصوبٌ بمعنى أنَّ للمتقينَ مفازاً فإنه في قوةِ أنْ يقال جازَى المتقينَ بمفازٍ جزاءً كائنا من ربِّك والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمالِ شيئاً فشيئاً مع الإضافةِ إلى ضميره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مزيدُ تشريفٍ لهُ صلى الله عليه وسلم {عَطَاء} أي تفضلاً وإحساناً منه تعالى إذْ لا يجبُ عليهِ شيءٌ وهو بدل من جزاءً {حِسَاباً} صفةٌ لعطاءً بمعنى كافيا علي أنَّه مصدرٌ أقيمَ مقامَ الوصفِ أو بُولغَ فيه من أحسبهُ الشيءُ إذا كفاهُ حتَّى قال حَسْبي وقيلَ: على حسبِ أعمالِهم وقرئ {حِسَّاباً} بالتشديدِ على أنَّه يمعْنى المُحسبِ كالدارك بمعنى المدركِ.
{رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بدل من {ربِّك} وقوله تعالى: {الرحمن} صفةٌ له وقيلَ: صفةٌ للأولِ وأياً ما كانَ ففي ذكرِ ربوبيتِه تعالى للكلِّ ورحمتِه الواسعةِ إشعارٌ بمدارِ الجزاءِ المذكورِ.
وقوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الربوبيةُ العامةُ من غايةِ العظمةِ والكبرياءِ واستقلالِه تعالى ما ذُكِرَ من الجزاءِ والعطاءِ من غيرِ أنْ يكونَ لأحدٍ قدرةٌ عليهِ.
وقرئ برفعِهما فقيلَ على أنَّهما خبرانِ لمبتدأٍ مضمرٍ وقيلَ: الثَّانِي نعتٌ للأولِ وقيلَ: الأَولُ مبتدأٌ والثاني خبرُهُ و{لا يملكونَ} خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ و{الرحمنُ} صفةٌ للأولِ، وقيلَ: {لا يملكونَ} حالٌ لازمةٌ وقيلَ: الأولُ مبتدأٌ و{الرحمنُ} مبتدأٌ ثانٍ و{لا يملكونَ} خبرُهُ والجملة خبرٌ للأولِ، وحصلَ الربطَ بتكريرِ المبتدأِ بمعناهُ على رأي مَنْ يقول بهِ والأوجهُ أنْ يكونَ كلاهُما مرفوعاً على المدحِ أو يكونَ الثانِي نعتاً للأولِ ولا يملكونَ استئنافاً على حالِه ففيهِ ما ذُكرَ من الإشعارِه بمدارِ الجزاءه والعطاءِ كما في البدليةِ لما أنَّ المرفوعَ أو المنصوبَ مدحاً تابعٌ لما قبلَهُ مَعْنى وإنْ كان مَنقطعاً عنه إعراباً كما فُصِّل في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} من سورةِ البقرةِ.
وقرئ بجرِّ الأولِ على البدليةِ ورفعِ الثانِي على الابتداءِ والخبرُ ما بعدَهُ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ وما بعدَهُ استئنافٌ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ وضمير {لا يملكونَ} لأهلِ السمواتِ والأرضِ أي لا يملكون أنْ يخاطبُوه تعالى من تلقاءِ أنفسِهم كما ينبئُ عنه لفظُ الملكِ خطاباً مَا في شيءٍ مَا والمرادُ نفيُ قدرتِهم على أنْ يخاطبُوه تعالى بشيءٍ من نقضِ العذابِ أو زيادةِ الثوابِ من غيرِ إذنِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيلَ ليسَ في أيديهم ممَّا يخاطبُ الله بهِ ويأمرُ به في أمرِ الثوابِ والعقابُ خطابٌ واحدٌ يتصرفونَ فيه تصرفَ الملاَّكِ فيزيدونَ فيهِ أو ينقصونَ منْهُ.
{يوم يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} قيلَ: الروحُ خلقٌ أعظمُ من الملائكةِ وأشرفُ منهم وأقربُ من ربِّ العالمينَ وقيل: هو مَلكٌ ما خلقَ الله عزَّ وجلَّ بعدَ العرشِ خلقاً أعظمَ منْهُ. عنِ ابنٍ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا أنَّه إذا كانَ يوم القيامةِ قامَ هو وحدَهُ صَفّاً والملائكةُ كلُّهم صفاً.
وعنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الروحُ جندٌ من جنودِ الله تعالى ليسُوا ملائكةً لهم رؤوسٌ وأيدٍ وأرجلٌ يأكلونَ الطعامَ ثُمَّ قرأ {يوم يقومُ الروحُ} الآيةَ». وهذَا قول أبي صالحٍ ومجاهدٍ قالوا ما ينزلُ من السماءِ ملكٌ إلا ومعه واحدٌ منُهم نقلَهُ البغويُّ.
وقيل: هم أشرافُ الملائكةُ وقيلَ: هم حفظةٌ على الملائكةِ.
وقيلَ: جبريلُ عليه السلام. و{صفَّا} حالٌ أي مصطفينَ قيلَ: هما صفَّانِ الروحُ صفٌّ واحدٌ أو متعددٌ والملائكةُ صفٌّ وقيلَ: صفوفٌ وهو الأوفقُ لقوله تعالى: {والملك صَفّاً صَفّاً} وقيلَ: يقومُ الكُلُّ صفّاً وَاحدًّا. و{يوم} ظرفٌ لقوله تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ}. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقال صَوَاباً} بدل من ضمير {لا يتكلمونَ}، العائدِ إلى أهلِ السمواتِ والأرضِ الذينَ من جُملتهم الروحُ والملائكةُ. وذكرُ قيامِهم واصطفافهم لتحقيق عظمةِ سلطانِه وكبرياءِ ربوبيتِه وتهويلِ يوم البعثِ الذي عليهِ مدارُ الكلامِ من مطلعِ السورةِ الكريمةِ إلى مقطعِها. والجملة استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قوله تعالى: {لا يملكونَ} إلخ ومؤكدٌ على مَعْنى أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ إذَا لم يقدرُوا يومئذٍ على أنْ يتكلمُوا بشيءٍ من جنسِ الكلامِ إلاَّ مَنْ أذنَ الله تعالى له منُهم في التكلمِ وقال ذلكَ المأذونُ له قولاً صواباً أي حقّاً فكيفَ يملكون خطابَ ربِّ العزةِ مع كونه أخصَّ من مطلق الكلامُ وأعزَّ منه مراماً لا على معنى أنَّ الروحَ والملائكةَ مع كونِهم أفضلَ الخلائقِ وأقربَهم من الله تعالى إذَا لم يقدرُوا أنْ يتكلمُوا بما هُو صوابٌ من الشفاعة لمن ارتضَى إلا بإذنه فكيفَ يملكُه غيرُهم كما قيلَ فإنَّه مؤسسٌ على قاعدة الاعتزالِ فمن سلكَهُ مع تجويزه أنْ يكونَ يوم ظرفاً للا يملكون فقد اشتبَه عليهِ الشؤونُ واختلطَ به الظنونُ وقيلَ: إلا من أذنَ إلخ منصوبٌ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يتكلمونَ إلا في حقِّ شخصٍ أذنَ له الرحمنُ وقال ذلكَ الشخصُ صواباً أي حقَّاً هُو التوحيدُ وإظهارُ الرحمنِ في موضعِ الإضمارِ للإيذانِ بأنَّ مناطَ الإذنِ هو الرحمةُ البالغةُ لا أنَّ أحدًّا يستحقُّه عليهِ سبحانه وتعالى.
{ذلك} إشارةٌ إلى يوم قيامِهم على الوجه المذكورِ وما فيه من مَعْنى البعدِ مع قُربِ العهدِ المشارِ إليه للإيذانِ بعلوِ درجتِه وبعدِ منزلتِه في الهولِ والفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ خبرُهُ ما بعدَهُ أي ذلكَ اليوم العظيمُ الذي يقومُ فيه الروحُ والملائكةُ مصطفينَ غيرَ قادرينَ هُم وغيرُهم على التكلمِ من الهيبةِ والجلالِ {اليوم الحق} أي الثابتُ المتحققُ لا محالةَ من غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ والفاءُ في قوله تعالى: {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ مَئَاباً} فصيحةٌ تفصحُ عن شرطٍ محذوفٍ، ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقِه بها حسبَ القاعدةِ المستمرةِ و{إلى ربِّه} متعلق بـ: {مآباً} قدمَ عليه اهتماماً به ورعايةً للفواصلِ كأنَّه قيلَ: وإذَا كانَ الأمرُ كما ذُكرَ منْ تحققِ اليوم المذكورِ لا محالةَ فمن شاءَ أن يتخذَ مرجعاً إلى ثوابِ ربِّه الذي ذُكِرَ شأنُه العظيمُ فعلَ ذلكَ بالإيمانِ والطاعةِ.
وقال قَتَادةُ: مآباً أي سبيلاً، وتعلقُ الجارِّ به لما فيه من مَعْنى الإفضاءِ والإيصالِ كما مرَّ في قوله تعالى: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} {إِنَّا أنذرناكم} أيْ بمَا ذُكرَ في السورةِ من الآيات الناطقةِ بالبعث وبمَا بعدَهُ من الدَّواهي أو بها وبسائر القوارعِ الواردةِ في القرآن {عَذَاباً قَرِيباً} هو عذابُ الآخرةِ وقربُه لتحقق إتيانِه حَتْماً ولأنَّه قريبٌ بالنسبة إليه تعالى، وإنْ رَأَوْه بعيداً وسيرونَهُ قريباً لقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يوم يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} وعن قَتَادَةَ: هو عقوبةُ الدُّنيا لأنَّه أقربُ العذابينِ وعن مقاتلٍ: هو قتلُ قريشٍ يوم بدرٍ ويأباهُ قوله تعالى: {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فإنَّه إما بدل من عذاباً أو ظرفٌ لمضمرٍ هو صفةٌ له أي عذاباً كائنا يوم ينظرُ المرءُ أي شاهدُ ما قدمَهُ من خيرٍ أو شرَ على أنَّ مَا موصولةٌ منصوبةٌ بـ: {ينظرُ}، والعائدُ محذوفٌ أو ينظرُ أيَّ شيءٍ قدمتْ يداهُ على أنَّها استفهاميةٌ منصوبةٌ بـ: {قدمتْ} وقيلَ: المرءُ عبارةٌ عن الكافر وما في قوله تعالى: {وَيَقول الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} ظاهرٌ وضعَ موضعَ الضمير لزيادةِ الذمِّ قيلَ: معنى تمنيهِ ليتني كنتُ تراباً في الدُّنيا فلم أُخلقْ ولم أُكلَّف أو ليتني كنتُ تُراباً في هذا اليوم فلم أُبعثْ وقيلَ: يحشرُ الله تعالى الحيوانَ فيقتصُّ للجمَّاءِ من القرناءِ ثم يردُّه تراباً فيودُّ الكافرُ حالَه وقيلَ: الكافرُ إبليسُ يَرَى آدمَ وولدَهُ وثوابَهُم فيتمنَّى أنْ يكونَ الشيءَ الذي احتقرَهُ حينَ قال: {خلقتني من نارٍ وخلقتَهُ من طينٍ}. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ}
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث، جعلوا يتساءلون فيما بينهما، ويقولون ما الذي جاء به هذا الرجل.
فنزل {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} يعني: عماذا يتساءلون.
ثم قال: {عَنِ النبإ العظيم} يعني: يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو القرآن كقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 68] ويقال: معناه عن ماذا يتحدثون، وعن أي شيء يتحدثون.
ثم قال: {عَنِ النبإ العظيم} يعني: خبراً عظيماً.
وقال الزجاج: أصله {عَمَّا يَتَسَاءلُونَ} ثم بين فقال: {عَنِ النبإ العظيم} يعني: عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: عن القرآن.
وقيل {عَنِ النبإ العظيم} يعني: عن البعث والدليل قوله تعالى: {إِنَّ يوم الفصل كَانَ ميقاتا} [النبأ: 17] ثم بين لهم الأمر الذي كانوا يتساءلون، وهو البعث.
ثم قال عز وجل: {الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} يعني: مصدقاً ومكذباً.
يعني: بالبعث بعضهم مصدق، وبعضهم مكذب.
ويقال: بالقرآن، ويقال: بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} يعني: سيعرفون {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} يعني: سيعرفون ذلك الوعيد، على أثر الوعيد، يعني: سيعلمون عند الموت وفي الآخرة، ويتبين لهم بالمعاينة.
قرأ ابن عامر {ستعلمون}، بالتاء على وجه المخاطبة، وقرأ الباقون بالياء، على معنى الخبر عنهم. ثم ذكر صنعه، ليستدلوا بصنعه على توحيده.
فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا} يعني: فراشاً ومقاماً.
ويقال: موضع القرار، ويقال: معناه ذللنا لهم الأرض، ليسكنوها ويسيروا فيها.
{والجبال أَوْتَاداً} يعني: أوتدها وأثبتها.
ثم قال: {وخلقناكم أزواجا} يعني: أصنافاً وأضداداً، ذكراً وأنثى.
ويقال: ألواناً بيضاً، وسوداً، وحمراً {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} يعني: راحة لأبدانكم وأصله التمدد، فلذلك سمي السبت، لأنه قيل لبني إسرائيل: استريحوا فيه.
ويقال: سباتاً يعني: سكوناً وانقطاعاً عن الحركات.
{وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً} يعني: سكوناً يسكنون فيه.
ويقال: ستراً يستر كل شيء {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} يعني: مطلباً للمعيشة {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} يعني: سبع سموات غلاظاً، كل سماء مسيرة خمسمائة عام {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} يعني: وقاداً مضيئة {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} يعني: من السحاب، سمي معصرات لأنها تعصر الماء.
ويقال: المعصرات هي الرياح.
يعني: ذوات الأعاصير.
كقوله: إعصاراً فيه نار.
ثم قال عز وجل: {مَاء ثَجَّاجاً} يعني: سيالاً ويقال: منصباً كبيراً {لِّنُخْرِجَ بِهِ حبًّا وَنَبَاتاً} يعني: بالماء حبوباً كثيرة للناس، ونباتاً للدواب من العشب والكلأ {وجنات أَلْفَافاً} يعني: شجرها ملتفاً بعضها في بعض، فأعلم الله تعالى قدرته، أنه قادر على البعث.
فقال: {إِنَّ يوم الفصل كَانَ ميقاتا} يعني: يوم القيامة ميقاتاً، وميعاداً للأولين والآخرين {يوم يُنفَخُ في الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} يعني: جماعة جماعة.
وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يبعث الله تعالى الناس صوراً مختلفة، بعضهم على صورة الخنزير، وبعضهم على صورة القردة، وبعضهم وجوههم كالقمر ليلة البدر.
ثم قال عز وجل: {وَفُتِحَتِ السماء} يعني: أبواب السماء {فَكَانَتْ أبوابا} يعني: صارت طرقاً.
قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم {وَفُتِحَتْ} بالتخفيف، والباقون بالتشديد، وهو لتكثير الفعل، والتخفيف بفتح مرة واحدة.
ثم قال عز وجل: {وَسُيّرَتِ الجبال} يعني: قلعت من أماكنها {فَكَانَتْ سَرَاباً} يعني: فصارت كالسراب، تسير في الهواء كالسراب في الدنيا {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} أي: رصداً لكل كافر ويقال: سجناً ومحبساً {للطاغين مَئَاباً} أي: للكافرين مرجعاً، يرجعون إليها.
{لابثين فِيهَا أَحْقَاباً} يعني: ماكثين فيها أبداً دائماً.
والأحقاب وأحدها حقب، والحقب ثمانون سنة، واثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم منها مقدار ألف سنة مما تعدون بأهل الدنيا، فهذا حقب واحد، والأحقاب هو التأييد كلما مضى حقب، دخل حقب آخر.
وإنما ذكر أحقاباً، لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم.
فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً.
قرأ حمزة لبثين بغير ألف، والباقون لابثين بالألف، ومعناهما واحد، ثم قال عز وجل: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً} يعني: لا يكون فيها برد يمنعهم من حرها.
وقال القتبي: البرد النوم.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون البرد نوماً، ويجوز أن يكون معناه: لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل {وَلاَ شَرَاباً} يعني: شراباً ينفعهم {إِلاَّ حَمِيماً} يعني: ماءً حاراً قد انتهى حره {وَغَسَّاقاً} يعني: زمهريراً.
وقال الزجاج: الغساق ما يغسق من جلودهم، أي: ما يسيل وقد قيل الشديد البرد.
قرأ حمزة، والكسائي وعاصم في رواية حفص، {وغساقاً} بالتشديد، والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد.
ثم قال: {جَزَاء وفاقا} يعني: العقوبة موافقة لأعمالهم، لأن أعظم الذنوب الشرك نعوذ بالله، وأعظم العذاب النار، ووافق الجزاء العمل.
ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} يعني: لا يخافون البعث بعد الموت.
ويقال: كانوا لا يرجون ثواب الآخرة، أنهم كانوا ينكرون البعث.
قوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً} يعني: جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن كذاباً يعني: تكذيباً وجحوداً.
ثم قال: {وَكُلَّ شيء أحصيناه كتابا} يعني: أثبتناه في اللوح المحفوظ {فَذُوقُواْ} يعني: يقال لهم: فذوقوا العذاب {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}.
ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} يعني: نجاة من النار إلى الجنة.
ويقال: المفاز بمعنى الفوز.
يعني: موضع النجاة {حَدَائِقَ وأعنابا} يعني: لهم حدائق في الجنة، والحدائق ما أحيط بالجدار، وفيه من النخيل والثمار، وأعناباً يعني: كروماً {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} والكواعب، الجواري مفلكات الثديين {أَتْرَاباً} مستويات في الميلاد والسن.
وقال أهل اللغة: الكواعب النساء، قد كعب ثديهن {وَكَأْساً دِهَاقاً} كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس، كما يقال للمائدة إذا كان عليها طعام مائدة، وإذا لم يكن فيها طعام خوان يقال: {دِهَاقاً} يعني: سائغاً.
وقال الكلبي: {وَكَأْساً دِهَاقاً} يعني: إناء فيه خمر ملآن متتابعاً.
وهذا قول عطية وسعيد، والعباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم، ومجاهد، وإبراهيم النخعي.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} يعني: حلفاً وباطلاً.
ويقال: ولا يسمعون في مشربها فحشاً خبثاً {وَلاَ كِذباً} يعني: تكذيباً في شربها.
يعني: لا يكذبون فيها.
قرأ الكسائي كذاباً بالتخفيف، يعني: لا يكذب بعضهم بعضاً، وقرأ الباقون بالتشديد فهو من التكذيب ثم قال: {جَزَاء مّن رَّبّكَ} يعني: ثواباً من ربك {عَطَاء حِسَاباً} يعني: كثيراً وقال مجاهد: عطاء من الله، حساباً بما عملوا.
وقال أهل اللغة: حساباً أي: كثيراً.
كما يقال: أعطينا فلاناً عطاء حساباً، أي: كثيراً.
وأصله أن يعطيه حتى يقول حسبي.
وقال الزجاج: حساباً.
أي: ما يكفيهم، يعني: فيه ما يشتهون.
ثم قال: {رَبّ السموات والأرض} يعني: خالق السموات والأرض.
قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، رب السموات والأرض بضم الباء والباقون بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه هو رب السموات والأرض ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الصفة أي: جزاء من ربك رب السموات والأرض {وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن} يعني: الرحمن هو رب السموات والأرض {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} يعني: لا يملكون الكلام بالشفاعة، إلا بإذنه {يوم يَقُومُ الروح} قال الضحاك: هو جبريل.
وقال قتادة عن ابن عباس، وخلق على صورة بني آدم.
ويقال: هو خلق واحد، يقوم صفاً واحدًّا {والملائكة صَفّاً} يعني: صفوفاً.
ويقال: الروح لا يعلمه إلا الله، كما قال: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
ثم قال عز وجل: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} يعني: لا يتكلمون بالشفاعة، إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة {وَقال صَوَاباً} يعني: لا إله إلا الله يعني: من كان معه من التوحيد، وهو من أهل الشفاعة.
ثم قال عز وجل: {ذَلِكَ اليوم الحق} يعني: القيامة كائنة {فَمَن شَاء اتخذ} يعني: من شاء وجد واتخذ بذلك التوحيد {ذَلِكَ اليوم الحق} يعني: مرجعاً.
ويقال: من شاء اتخذ بالطاعة إلى ربه مرجعاً.
ثم خوفهم فقال: {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} يعني: خوفناكم بعذاب قريب، وهو يوم القيامة.
ثم خوف المؤمنين، ووصف ذلك اليوم {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} يعني: ما عملوا من الخير والشر يعني: ينظر المؤمن إلى عمله، وينظر الكافر إلى عمله {وَيَقول الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} يعني: لو كنت بهماً منها فأكون تراباً، أستوي بالأرض.
وذلك، أن الله تعالى يقول للسباع والبهائم، كوني تراباً فعند ذلك، يتمنى الكافر {الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا}.
وروى عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: إن الله يحشر البهائم والدواب والناس، ثم يقتص لبعضهم من بعض، حتى يقتص للشاة.
الجماء من الشاة القرناء.
ثم إن الله تعالى يقول لها: كوني تراباً، فيراها الكافر ويتمنى أن يكون مثلها تراباً.
ويقول: {الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا} يعني: يا ليتني لم أبعث كقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقول ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه} [الحاقة: 25] إلى قوله: {ياليتها كَانَتِ القاضية} [الحاقة: 27] والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم. اهـ.